في ضوء الخطوة التنظيمية المهمة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين في غرة شهر رمضان المبارك لعام 1431هـ، بشأن تنظيم إصدار الفتاوى في المملكة، وقصر حق الإفتاء الرسمي على أعضاء هيئة كبار العلماء المعتمدين رسميا، لضبط حالة الفوضى التي شهدتها الساحة من وجود فتاوى شاذة تنشر للعموم وتتسبب في البلبلة للمواطنين. وفي هذا الصدد أرى من الأهمية بمكان اهتمام ولي الأمر الكريم بإيجاد مرجعية شرعية رسمية للسوق المالية والمصارف السعودية. وقد يقول قائل إن هناك هيئات رقابة شرعية أو هيئات استشارية شرعية تشرف على عمل السوق المالية في السعودية، من خلال الإشراف على المنتجات المالية الإسلامية للمصارف السعودية والأشراف على صناديق الاستثمار الإسلامية وشركات الوساطة المالية للتأكد من مطابقة منتجاتها المالية لمبادئ الشريعة الإسلامية، ولكن المتتبع للسوق المالية السعودية يجد أنها تعانى من كثرة المتصدين للفتاوى الاقتصادية وتشهد ساحات الإنترنت العديد من هذه الاجتهادات سواء مايخص تصنيف الأسهم من أسهم نقية أو غير نقية أو فتاوى تخص جواز الاكتتاب في بعض الشركات وخصوصا شركات التأمين التعاونية التي عانت من بعض الآراء الشاذة حول مدى مطابقة نشاطها للشريعة الإسلامية بالرغم من وجود فتاوى من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني. وسوف نستعرض في هذا المقال أساليب عمل هيئات الرقابة الشرعية في كل من المملكة العربية السعودية مع مقارنة بدولة إسلامية أخرى وهي ماليزيا بغرض التوصل للصيغة الصحيحة لعمل الهيئات الشرعية وإيجاد المرجعية الرسمية اللازمة.
* أولا: هيئات الرقابة الشرعية في المملكة العربية السعودية:
بالرغم من تنامي نشاط المصارف الإسلامية والسوق المالية في المملكة العربية السعودية، إلا أنه لا توجد مرجعية نظامية (قانونية) لعمل الهيئات الاستشارية الشرعية التي تعرف باسم «هيئات الرقابة الشرعية» على المصارف والصناديق الاستثمارية الإسلامية في المملكة العربية السعودية، حيث تقوم المصارف وشركات الوساطة المالية السعودية بشكل طوعي وانفرادي باتخاذ هيئة للرقابة الشرعية لمراقبة عملها، وتلتزم إدارة الخدمات الإسلامية بتطبيق الفتاوى والقرارات الصادرة عن الهيئة، وتم تحديد اختصاصات الهيئة بالتالي:
مراقبة أعمال إدارة الخدمات المصرفية الإسلامية، ومتابعة ما تقوم به للتأكد من مطابقة ذلك للمقتضيات الشرعية والرقابة والفتوى والمتابعة والتوجيه للخدمات المصرفية الإسلامية.
ونظرا لهذا الفراغ النظامي (القانوني) في تحديد مهام وصلاحيات هيئات الرقابة الشرعية على المصارف الإسلامية والسوق المالية السعودية، فقد ارتفعت الدعوة إلى إيجاد هيئة استشارية شرعية تابعة لمؤسسة النقد العربي السعودي لتكون مرجعية لنشاط المصارف وشركات التأمين التعاوني وهيئة شرعية تابعة لهيئة السوق المالية تكون لها المرجعية للبت في القضايا الشرعية المالية في سوق المال السعودي، وذلك بهدف تقليل حجم الاختلافات في الآراء الفقهية حيال التعاملات المالية القائمة ودراسة بعض المشكلات المتعلقة بالممارسات المالية التي تعتريها الشبهات من الناحية الشرعية.
وفي هذا الشأن قال الدكتور عبدالرحمن الأطرم عضو مجلس الشورى: إن الحاجة ماسة لتكوين لجنة من العلماء الشرعيين المتخصصين لتقوم بدور المراجعة والنظر في بعض التطبيقات المالية القائمة، أو التي تعتزم تشريعها المؤسسات المالية السعودية ضمن أنظمتها وتطوير أعمالها، مفيدا بأن ذلك سيزيد من جاذبية الاستثمار في الأسواق المالية، ويقلل من الاختلافات.
وتأكيدا لذلك قال الشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء في المملكة وعضو هيئة الرقابة الشرعية في العديد من البنوك السعودية: إننا نتمنى أن يكون لدى مؤسسة النقد العربي السعودي مسعى لإيجاد قاسم مشترك بين البنوك الإسلامية في السعودية بحكم مسؤوليتها عن مراقبة العمل المصرفي، وذلك من خلال إيجاد هيئة رقابة شرعية موحدة لدى مؤسسة النقد تتولى التنسيق بين الهيئات الشرعية لدى البنوك، وفي حالة الخلاف في الرأي فيتم عرضه على مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
كما كشف الدكتور سعد الشتري العضو السابق لهيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء أسباب عدم صدور فتاوى من الهيئة بشأن المساهمة في شركات بعينها من حيث الإباحة أو الحرمة لعدة أمور منها: أن فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء يحكم بها على الأفعال ليتم تطبيقها عليها لا على الأسماء، لئلا يكون هناك تعصب لأسماء، كما لا يمكن للجنة إصدار فتاوى بشأن الشركات المساهمة (المدرجة في سوق الأسهم السعودية) حيث يصعب عليها متابعة القوائم المالية لجميع الشركات وكذلك أنشطتها، ولكن اللجنة أصدرت قواعد عامة في حكم التجارة بالأسهم، وهي تشمل جميع الشركات عامة، وكقاعدة عامة إن الشركة التي ليس لديها نشاط محرم يجوز المساهمة والاكتتاب فيها.
* ثانيا: الهيئة الاستشارية الشرعية للبنك المركزي في ماليزيا:
نستعرض كيفية تنظيم دور هيئات الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية من خلال الاستفادة من تجربة دولة ماليزيا المسلمة، حيث منحت تراخيص لثلاثة سعودية وخليجية في شهر سبتمبر من عام 2003م، والتي تستحق تسليط الضوء عليها لعرض تجربة كل من الدولتين بشيء من التفصيل وإبراز نقاط التقارب بينهما وكيفية نقل التجارب الناجحة.
ويطبق النظام المصرفي في ماليزيا النظام المزدوج، حيث تعمل البنوك التقليدية (التجارية) جنبا إلى جنب مع البنوك الإسلامية، وتخضع البنوك الإسلامية لرقابة البنك المركزي طبقا لأحكام قانون البنوك الإسلامية لعام 1983م فيما تخضع البنوك التقليدية التي تقدم خدمات مالية إسلامية طبقا لبرنامج البنوك الإسلامية(IBS) حيث أسس البنك المركزي الماليزي وحدة متخصصة تحت مسمى وحدة المصرفية الإسلامية.
أ - آليات عمل وحدة المصرفية الإسلامية:
1 - وحدة سوق المال الإسلامية: تتولى القيام بالدراسات وابتكار المنتجات المالية الإسلامية في مجال الأسهم، أدوات الدين والمشتقات المستقبليات، وتقوم هذه الوحدة بعرض أبحاثها وتحليلاتها على هيئة الرقابة الشرعية (SAC).
2 - وحدة الأبحاث الشرعية للمنتجات المالية (ISSG) تأسست في 15 مايو 1944م من مجموعة من علماء الشريعة الإسلامية والمختصين في المنتجات المالية لمناقشة المسائل الخاصة بالمنتجات المالية وكيفية معالجاتها من الناحية الشرعية.
ب - تشكيل الهيئة الشرعية للبنك المركزي:
• تأسست الهيئة الاستشارية الشرعية «Syariah Advisory Council» كهيئة استشارية تابعة للبنك المركزي للقيام بمهمته الرقابة وتقديم الاستشارات الشرعية في كافة المسائل الخاصة بسوق المال الإسلامية. وذلك من خلال الأساليب التالية:
1 - القيام بالدراسة للمنتجات المالية التي تطرحها سوق المال في ماليزيا سواء من ناحية الهيكلة الآلية وطريقة استخدامها وتداولها وذلك على ضوء الضوابط الشرعية.
2 - القيام بابتكار أدوات مالية جديدة موافقة للضوابط الشرعية.
3 - إصدار قائمة بالمنتجات المالية الموافقة للضوابط الشرعية والمسجلة في بورصة ماليزيا.
4 - إرشاد مجلس الإدارة للبنوك والمؤسسات المالية حول المسائل الشرعية الخاصة بعمليات الأعمال المصرفية للتحقق من التزامها بالمبادئ الشرعية في كل الأوقات والمصادقة على كتيبات الالتزام بالشريعة والمصادقة على وإجازة المستندات ذات الصلة. ولضمان التسجيل السليم لتسهيل الرجوع إليها فإنه ينبغي على اللجنة أن تعطي آراءها وقراراتها خطيا. وتعتبر الهيئة تابعة مباشرة لمجلس الإدارة ومستقلة عن إدارة البنك.
ج- تنظيم عمل الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية:
• ترتبط الهيئات الشرعية لكافة البنوك الإسلامية في ماليزيا بالمجلس الاستشاري الشرعي (SAC) التابع للبنك المركزي، وذلك لتنظيم الفتاوى والاجتهادات الشرعية لمنع التشويش على العامة و تقليص الفجوة في تفسير الشريعة وفهم أحكامها.
• وفي عام 2003م صدر تعديل لقانون المصارف الإسلامية بحيث يعزز دور مجلس الاستشاري الشرعي ليكون المرجعية النهائية للمسائل الشرعية الخاصة بالمصرفية الإسلامية والبت في المسائل الخلافية برمتها.
• لا يسمح لأعضاء المجلس الاستشاري الشرعي (SAC) التابع للبنك المركزي أن يكونوا أعضاء في هيئات الرقابة الشرعية التابعة للبنوك.
• لا يسمح للشخص الواحد إلا بعضوية واحدة من اللجان في كل صناعة وبكلمات أخرى فإنه إذا كان الشخص عضوا في هيئة رقابة شرعية لأحد البنوك الإسلامية فإنه لا يستطيع أن يكون عضوا في لجنة مماثلة في بنك آخر.
• ويجب أن يكون عضو اللجنة مؤهلا على الأقل في الفقه الإسلامي (أصول الفقه) أو قانون المعاملات التجارية الإسلامية (فقه المعاملات) أو يمتلك المعرفة والخبرات اللازمة في الحقول (المجالات) ذات الصلة.
• ومن التطورات المهمة موافقة القضاء على إحالة قضايا النزاع التي تتضمن مسائل شرعية حول الأعمال البنكية الإسلامية والتمويل إلى الهيئة الاستشارية الشرعية التابعة للبنك المركزي للبت فيها.
ثالثا: الهيئة الشرعية لهيئة الأوراق المالية في ماليزيا:
يتم تنظيم عمل الهيئات الاستشارية الشرعية لسوق المال وصناديق الاستثمار الائتمانية الإسلامية في ماليزيا طبقا لأحكام نظام (قانون) هيئة الأوراق المالية لعام1993م، حيث يختلف نطاق عمل الهيئة الاستشارية الشرعية (SAC (Shariah Advisory Council التابعة للبنك المركزي، عن نطاق عمل الهيئة الاستشارية الشرعية التابعة لهيئة الأوراق المالية، والتي تشرف على صناديق الاستثمار الائتمانية الإسلامية، وتمارس عملها على النحو التالي:
1 - طريقة تشكيل هيئات الرقابة الشرعية:
تلتزم صناديق الاستثمار الائتمانية الإسلامية بتعيين مستشار شرعي بموجب القواعد الإرشادية لصناديق الاستثمار الائتمانية الإسلامية التي تشترط أن يتم تكوين الهيئة على النحو الآتي:
أ) تشكل اللجنة من عضو واحد أو ثلاثة أفراد كأعضاء اللجنة الاستشارية الشرعية.
ب) يجب أن يكون العضو موافقا عليه من هيئة الأوراق المالية بموجب القواعد الإرشادية للصناديق الاستثمارية الائتمانية الإسلامية.
ج) كل مستشار شرعي يحق له أن يعمل كعضو في لجنة استشارية شرعية واحدة لكل نوع من المؤسسات المالية.
د) شركات الاستشارات الشرعية لا تستطيع أن تكون عضوا في هيئة رقابة شرعية حيث خصصت مقاعد العضوية للأفراد فقط.
هـ) يجب أن يكون العضو مؤهلا في فقه المعاملات.
ز) يعين موظف بالصندوق كأمين سر للهيئة الاستشارية الشرعية.
2 - مهمات وصلاحيات اللجنة الاستشارية الشرعية:
أ) مراقبة أداء الصندوق ومطابقته للمعايير الشرعية.
ب) التنسيق والخبرات والنصائح لإدارة الصندوق بكل حذر وعناية في جميع المسائل المتعلقة بالشريعة بما في ذلك نشرة الإصدار ووثيقة الائتمان «الترست» والهيكلة وأدوات الاستثمار وغير ذلك من المسائل الإدارية والتشغيلية.
ج) التنسيق والتشاور مع اللجنة الاستشارية الشرعية لهيئة الأوراق المالية في حالة وجود أي غموض أو شك في سلامة أي استثمار أو إدارة مالية أو إجراء من الناحية الشرعية.
د) التأكد من تمشى استثمارات الصندوق مع قرارات اللجنة الاستشارية الشرعية.
هـ) المصادقة على دليل المعايير الشرعية المطبقة في الصندوق.
و) المصادقة على المستندات والعقود للمنتجات المالية الشرعية التي يتعامل فيها الصندوق.
رابعا - الضوابط الشرعية المطبقة في السوق المالية بماليزيا:
أصدرت الهيئة الاستشارية الشرعية «SAC» التابعة لهيئة الأوراق المالية مجموعة الضوابط الشرعية للمعاملات المالية المطبقة في السوق المالية الماليزية، وتلتزم شركات الوساطة المالية وصناديق الاستثمار الائتمانية الإسلامية بتطبيق هذه المعايير الشرعية عند الاستثمار في أسهم الشركات المساهمة، والتأكد أن نشاط الشركة المراد الاستثمار فيها غير محرم (مثل التعامل بالربا أو الميسر) وكذلك عدم وجود شركات فرعية مملوكة للشركة المراد الاستثمار فيها تمارس نشاط محرم. وقد أصدرت الهيئة الاستشارية الشرعية قائمة بالأنشطة المحرمة، كما تتولى الهيئة الاستشارية الشرعية (SAC) الاجتهاد في إبداء الرأي نحو أي أنشطة أخرى قد تكون غير مباحة من الناحية الشرعية لمنع إدراجها ضمن أنشطة صندوق الاستثمار الائتماني الإسلامي.
وتواصل هيئة الأوراق المالية في ماليزيا جهدها في تفعيل السوق المالية الإسلامية (ICM) من خلال إيجاد قائمة للشركات المطابقة للشريعة الإسلامية (SAC LIST) التي تضم نسبة 80 في المائة من أسهم الشركات المسجلة في بورصة ماليزيا، وتعتبر هذه القائمة هي المصدر الأساسي لمؤشر كوالالمبور الإسلامي KLSI ومديري صناديق الاستثمار الإسلامية منذ إصدارها في يونيو 1997م، ويتم مراجعة القائمة بشكل دوري.
ومن خلال هذا العرض يتضح أهمية الحاجة لإيجاد مرجعية رسمية لهيئات الرقابة الشرعية في المصارف السعودية والسوق المالية السعودية لمنع تضارب الفتاوى بسبب عدم وجود معايير شرعية موحدة لمرجعية الفتاوى التي تصدرها الهيئات الاستشارية الشرعية للمصارف الإسلامية وشركات الوساطة المالية في المملكة العربية السعودية، تسبب في صدور فتاوى من تلك الهيئات بجواز بعض المعاملات المالية التي رأت هيئة كبار العلماء ( الهيئة الرسمية العليا للإفتاء في المملكة العربية السعودية) عدم جوازها. ويرى بعض المستشارين الشرعيين السعوديين أن النظام (القانون) السعودي يكفل الحرية للهيئات الاستشارية الشرعية، ولا يقيد عملها بهيئة استشارية شرعية مركزية تابعة لهيئة السوق المالية، لإعطاء القدرة على مواكبة لتطور عمل صناديق الاستثمار الإسلامية.
وأرى أن من الضروري إيجاد هيئة استشارية شرعية مركزية في المملكة العربية السعودية تابعة لمؤسسة النقد العربي السعودي تشرف على عمل المصارف الإسلامية في السعودية، وهيئة رقابة شرعية تابعة لهيئة السوق المالية تتولى الأشراف على شركات الوساطة المالية وصناديق الاستثمار الإسلامية بالسعودية، تراقب مدى صحة عملها من الناحية الشرعية وتطوير القواعد الشرعية للعمل المصرفي المعاصر.
* محام ومستشار قانوني
* باحث في شؤون المصرفية الإسلامية
adli.hammad@hmco.sa.com